إلى الوقفين على رصيف الأمل

أيّها الوافدون لجنّة الإبداع ، المتعطّشون لفيض الأدب ، المشتاقون لقلم ينزف ابداعا
يا سكّان عالمي وزوّاره .بكم أمضي لأحلامي منكم أستمدّ الحرف والكلمة فابقوا هنــا ...
عبير

الخميس، 5 يوليو 2012

أنثى الغياب 1


هي امرأة ككلّ نساء زمانها بل ربّما أكثرهنّ  جنونا ، يوم آخر من أيام حياتها يبدأ كالعادة بصباح مملّ تراها ترتشف قهوتها ببطء ملحوظ وبين الرشفة والرشفة وقت لا صدى فيه إلاّ للصمت، تجمع أغراضها المبعثرة في كلّ زاوية تحملها وتمشي مهرولة للخارج وقبل ثانية من خروجها تكتفي بكلمة "وداعاً" التي في الغالب لا يسمعها أحد و كأنّها تلفظها فقط مجاراة للضمير .
في الشارع هي امرأة أخرى عيناها تفحصان كلّ شئ وخطواتها المتسارعة ما تنفكّ  تتباطؤ وفي كلّ خطوة كأنّها تحاول أن توقف صخب الصمت الذي يتبعها ، طريقها ينتهي عند وصولها بوابة مكتبها ، خطواتها المتذبذبة بين السرعة والبطء توصلها في الوقت تماما .
تدخل مرتدية رداء الصمت لتبدو جادة بالقدر الذي تحبّ، لا تكلف نفسها عناء النظر إلى الوجوه فهي هناك امرأة  ثالثة لا توزّع النظرات مجاناٌ، وفي المساء تخرج من مكتبها وحيدة كما دخلته بذات الخطوات الرشيقة المتمايلة  تترك المرأة الثالثة هناك وترتدي رداء المرأة الثانية وطريق عودتها إلى  البيت كما طريق الصباح وما إن تصل أمام الباب .حتى تصبح من جديد مرأة الصباح ذاتها تفتش عن المفتاح في جيوب معطفها الكثيرة وعندما لاتجده تطرق الباب في عجل وما إن يفتح حتى ترمي الجميع ب "مرحبا" الجافة من أيّ معنى بعد دقائق معدودات، تجلس على طاولة المطبخ ترتشف قهوتها المسائية كما تحبها مسكّرة جدا وتجيب عن أيّ سؤال بأنّ يومها كان مملّا وكأنّها تحاول الهرب من أيّ حصار مفترض بالشكوى تسأل بجمل مختصرة وتجيب بذات النبرة المملّة ومع آخر قطرة في فنجانها تصعد إلى غرفتها التي طمست الفوضى معالمها تقف في البدء عند النافذة موجهة بصرها نحو زهور الحديقة البديعة ثمّ ما تلبث أن تغرق في بحر شرودها وفوضى تساؤلاتها والتي لا تقطعها إلاّ رنّة الهاتف المزعجة تلك تنظر إلى اسم المتصل إنها إحدى الصديقات القديمات  ، تشرع في حديثها المختصر ، لا تتكلم إلاّ عن البديهيات خوفا من أن يتهاوى لغز صمتها على جسد الكلمات  تبادر بإنهاء المكالمة بحجة التعب ترمي ذاك الهاتف اللعين الذي قطع سكون تأملها جانبا وتعود لبحر شرودها كأنّ شيئا لم يكن وبعد أن تكتفي تجلس على الكرسيّ الأحمر وتسحب من درج الطاولة دفترا وقلما  يبدو أنّها سئمت الصمت والكلام المختصر فقررت أن تختبئ خلف مفردات اللغة فاللغة وجدت أصلا لنختبئ خلفها ، كانت لا تكفّ عن إحداث خربشات بلا معنى والخوف بدا جليّا في طريقة مسكها للقلم خافت أن تضطرها الكتابة لمواجهة ما تهرب منه فيزول لغزها الخفيّ وهي لا تريد سوى أن تكون سيدة الغموض اللامنتهي ، يهبّ عليها فجأة نسيم الحزن العابر للأمسيات فتقرّر أن تواجه أمواج اليأس  تأخذ نفسا عميقا وتستعدّ للكتابة تدوس على رماد قلبها وتكتب في أول السطر "كنّا أجمل حكاية " وما إن تضع النقطة الأخيرة حتى تشعر بسعادة تماثل سعادتها حين  رأته أول مرة في طريقها للعمل تغمرها نشوة الإنتصار وتحلّق في سماء سعادتها لبرهة ثم تهوي ساقطة مع أول دمعة تسللت من عينيها ففي غفلة عنها أومضت الأحزان تحاول أن تكتب أكثر فلا تجد عير انهطال مستمر للذكريات تحاول جاهدة أن تكبت تلك الدموع لكن بلا أيّ جدوى فهي الآن قد نقضت هدنة السلام التي عقدتها مع نفسها قبل عام مضى ، استسلمت لمشاعرها وتركت دموعها تغسل ذاك الحزن المتراكم في قلبها فكل شئ حولها يذكرها به حتى ذاك الكرسي الأحمر الذي تجلس فوقه هو من اختاره لها وأزهار الحديقة هي بالنسبة لها تذكار دائم برجل لم يكن يفوّت يوما دون أن يهديها فيه وردا وفي الدفتر ترى صورته فهو الذي ظلّ يدفعها لتكتب فالكتابة حسبه تمنع عنّا الجنون .لازالت نظراته سهما يخترق كلّ الحدود الفاصلة ليصيب موضعه في قلبها ، كسحابة الصيف العابرة مرّ على حياتها وبذات السرعة رحل فأضحت وحيدة تحارب وحشة أيامها ولياليها كلما قرّرت أن تلملم شتاتها تذكرت كيف قرّرا معا أن يبنيا حصون حبّهما فتتعثر في طريق تيهها ، صدى ضحكاته يجعل فكرها جافا من كلّ شئ إلاّ من ذكرياتها معه وصدى صوته يتغلغل في أعماق وجدانها فتتذكر كيف صليا معا في محراب الحبّ. كلّ شئ فيه كان يسحرها ، ثورة غضبه كلّما شعر باستفزاز لرجولته ، نظراته الحادة التي سرعانما تلين حين تلتقي بنظرتها ، نبرة صوته التي بها عشقت كلّ دواوين الحبّ ، ابتسامته البريئة حين تلتقي الطرق صباحا لتجمعهما وحركة يديه وهو يقود سيارته وبصره شاخص نحوها..
ظلّت طول عام تبحث عن أغنية تنسيها النسيان وفي كلّ مرة تجد نفسها في مملكة الحبّ 

التي أهداها لها وكلّما حاولت أن تهرب لأحضان اللغة كما كانت تفعل كلّما أزعجها فع

ل منه وجدت نفسها تحترق بنار الشوق لحرفه ، من بعده أصبحت عاجزة عن كلّ شئ 

حتى عن القراءة فهو كان أمير مملكتها الثقافية وفي غياب الأمير لا مكان إلاّ للفوضى 

.كم من الأكاذيب يلزمها لتقنع نفسها أنّها بخير وكم من الزمن يلزمها لتنسى عنترا اقتنص 

قلبها وعقلها كليهما بسهم واحد ثمّ رحل أن يودعها .في هذه اللحظة وهي في أعلى 

درجات انهيارها تتمنى لو أنها قربها ، تلتفت يمينا ويسارا عسى أن يكون كلّ ذلك 

كابوسا ، تريده الآن كي تحتضن دفئ يديه فتشعر بالأمان ، تريده الآن كي يوقف موسم 

تهاطل دموعها تريده الآن في هذه اللحظة بالذات كي يشرح لها بمفردات لغته العذبة 

معاني الحبّ المختلفة وكي تحكي له حكاية الشوق الطويلة تريد الآن أن تسمع صوته

يذكرها كم هي قوية والآن تريد رسالة منه يخبرها فيها أنهما تورطا في الحبّ .تتمنى لو 

أنّها طلبت منه يوما أن يمنحها بضعا من قوته أو بضعا من ثباته لكن أيّ قوة قد توقف

تيار الحبّ  ؟ وأيّ ثبات كفيل بتقويتها أمام تيارات الشوق؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق